لا يعتمد تكنيك الكهانة الحديثة على امرأة ذات شعر طويل أجعد أمامها بلوْرة عجيبة تحرَّك يديْها المُجعدَتيْن حوْلها بطريقة دائرية في تناسق شعوذي رهيب فتظهر لها الماضي والحاضر وأشياء من المستقبل إنْ ظَهَر!.. هذا أسلوبٌ قديم وبدائي جدًا عارٌ على القرد المتطور في عصرنا الحالي أن يستخدمه , يلجأ قردُنا المتطوِّر الذي يُجيد القراءة والنسخ والطباعة والدفاع عن " معتقداته " حوْلَ أصوله الهمجية والبدائية في قرننا الحادي والعشرين إلى طرق كهانة أكثر حداثة فهو يأخذ المعلومات العلمية المُكتشفة وبيانات الدراسات الحديثة يجمعها ويُصنفها ثمَّ يُطلق العنان لمخيِّلته ليبتكر قصَّة عن أسلافه تُبرر وظيفة أو سلوك أو ميزة معيَّنة في الكائن الحيْ .. وكما تروْن فإنَّ هذا الأسلوب لا يمتُّ بالعلم بصلة بل إلى خرافات وتفسيرات غيْبِيَّة وهميَّة , فهل نرفع له القبَّعة لأنَّه ماديٌ آمن بميتافيزيقياته !؟ آمن بوقوع قصَّة حدثت أحداثها في الماضي السحيق , وهو مَنْ كَتَبَ فصُولها بنفسِه في وقتِه الراهن!!.. { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } .
تضع المكتشفات العلمية وبيانات الدراسات الحديثة التطوريين في أزمة كبيرة لن يجدوا عنها مخرجًا إلاَّ أن يؤمنوا بقوَّة عاقلة مريدة قادرة خَلَقَتْ الإنسان كاملاً من أوَّلِ مرَّةٍ وفي أحسنِ تقويم , ولكنهم عمدوا إلى تبريرات من نوع " الكهانة " فوضعوا أنفسهُمِ موضِعَ " شاهد ما شافشِ حاجة! ", ومن أمثلة هذا ما قرأت :
قام الزوجان النوريجيان روبن وراكيل جور Gur أستاذا علوم الأعصاب بعدَّة تجارب لقياس الفروقات الجنوسية في المخ الذكوري والمخ الأنثوي حيْثُ قاما بعرض مجموعات من الصور التي تُبيِّن وجوهًا تحمل تعبيرات مختلفة على مجموعة من الرجال ومجموعة من النساء محل البحث , وطلبا منهم إبداء الرأي حول المشاعر التي تُعبر عنها هذه الصور وكانت النتيجة أنَّ النساء يقرأن تعبيرات وجوه الوجوه بدقة بلغت 90% سواء كانت الصور لرجال أو لنساء , أما الرجال فكانوا قادرين على قراءة التعبيرات بدقة بلغت 90% في صور الرجال و 70% فقط في صور النساء , وهذا يعني تفوُّق النساء على الرجال في قراءة تعبيرات وجوه النساء , مع تساوي قدرات الجنسين في قراءة تعبيرات وجوه الرجال .
وقد أرجع الزوجان جور هذه الفروق إلى أزمان سحيقة كان فيها الرجال البدائيون يتناقشون بحدة حول إمتلاك الإناث وحول الصيد , فكان ضروريًا للرجل أن يكتسب القدرة على إستقراء وجوه الرجال , أما الإناث فلم يعبأ الرجل المُسيْطر بفهم مشاعرهن . هذا في الوقت الذي اكتسبت فيه النساء القدرة على قراءة تعبيرات وجوه الجنسيْن ليحمينَ أنفسهن من بطش الرجال وكيد النساء .(1)
وإني لأتساءل إن كانت قراءة تعبيرات الوجوه تحمي فعلاً من البطش أم هوَ تنمية العضلات وسرعةُ العدو ؟؟ وإن كانتْ ثمَّة نقاشات حادَّة انهمك فيها الذكور فلماذا القدرات اللغوية هيَ من نصيبِ الإناث ؟!!
يظهر هذا التفوُّق في العديد من المهارات اللغوية حيْثُ تبدأ البنات بالكلام قبل الأولاد بحوالي شهر , وفي سنِّ العشرين شهر تمتلك الطفلة رصيدًا لغويًا يعادل ضعف إلى ضعفَيْ مايملكُهُ الطفل , وعند الثالثة تُشكل البنات جُمُلاً أطول وأدق لغويًا ويحتاج الأولاد إلى عامٍ إضافي لفعل هذا , ومن سن 2-4 تُدرك البنات أكثر من الأولاد بعض الفوارق الدقيقة في قواعد اللغة , هنَّ أقدر على الهجاء وأقدر على القراءة وأكفأ وأسرع في نطلق الكلمات الصعبة , مشاكل النطق وصعوبة الكلام " التأتأة واللعثمة " أقل بنسبة 80% في الإناث(2) وكثيرٌ آخر لم أذكره .
لا شيء يَسْتَنَد عليْهِ تكهُّن الزوجان Gur سوى " التبرير " البحت وإستخدام " آية ظاهرة الوضوح تُجلي عظمة ( التصميم الذكي ) " وإستبدالها بقصَّة خُرافيَة كُتبت أحداثها في عقليْهِما وسيتلَقَفَها المُتلقي الذي لا يُحسن إكتشاف ( القطعة المفقودة ) بينَ " المدخلات الصحيحة " وَ " النتائج الصحيحة " ألا وَهيَ " العمليات المنطقية التي تُعَبِّد الطريق منطلِقَةً من المدخلات الصحيحة نحوَ الإستنتاج الصحيح " والتي لا يُعد الخيال وتأليف القصص إعتباطًا أحدها بكلِّ تأكيد .
إنَّ التفسير الوحيد لتفوُّق المرأة في قراءة وجوه كلا الجنسَيْن , هو أنَّ مخ الأنثى ( ذلك العضو المسؤول عن الذكاء والسلوك ( قد تمَّ تشكيله وإعداده سلفًا ليقوم بالمشاركة والتعاطف (3) على حدِّ تعبير د. سيمون بارون كوهين أستاذ علم النفس والأمراض النفسية في جامعة كمبردج , ذلك لتفهم إنفعالات رضيعها عن طريق تعبيرات وجهه سواءً أكان ذكر أم أنثى ذلك الرضيع الذي لا يُجيد الكلام .
ولأنَّها بطبيعتها سيِّدة المنزل والمربية الأولى فيه قبل الرجل فهي تحتاج إلى إستخلاص الحالة النفسية لصغارها ممن يُجيدون الكلام ولا يبتغونَ إليهِ سبيلاً فتقرأ ذلك بينَ زوايا وجُوههم فتُقوِّم أخطائهم وتصلح عثراتهم لتكون كل الفضل والفضيلة لها , ذلك أن قال فيها رسول الله " أمك , ثم أمك , ثم أمك " .. ومازال أنسال الهمجية والبدائية في جهادٍ ضدِّ العلم والدين باسمِ الإلحاد قُلِ العناد وسَمِّهِ غباء .
فإنَّ مقالتي هذه أخُصُّ بها أبناءنا وبناتنا المسلمين طلاَّب الجامعات في الداخل والخارج الذين يدرسون في مقرراتهم علم أعضاء الجسد و علم النفس أو علم السلوك ونحوِ هذا , أن يأخذوا من العلومِ " صحيحها " ويتركوا "التكهُّنات " لأهلها الذينَ يُعاجزونَ في آياتِ الله فهُم أحقٌّ بظنونهم وعواقِبِها مِنْ سواهُم ممَّن لا يؤمنون بخرافاتهم وجنونهم إزاءَ ماضيهم البدائي والهمجي { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُون }.
والحمدُ لله ربِّ العالمين .
--------
المراجع مأخوذة من كتاب " المخ ذكر أم أنثى ؟ " :
1- Gur, R. R. (1992): " Facial Emotion Discrimination " , Psychiatry Research 42, 231-240.
2- Kramer, J.H. (1998): "Sex Differences in verbal learning", Journal of Clinical Psychology 44, pp.907 – 15.
3- Baron-cohen, S. (2003): "sexual Differentiation of Brain" , Massachusetts Institute of Technology press, Cambridge, Mass.